.
.
شهر عسل
شمس الدين درمش
انطلق العروسان نحو مكة المكرمة على بساط الريح، لا يشعران بما حولهما في الصحراء الممتدة على مدى النظر في جانبي الطريق.. سعادة غامرة لا توصف، واطمئنان يسكن كل ذرة منهما.
صوت جهاز التسجيل يتناوب بين آيات من كتاب الله سبحانه ينصت لها العروسان ويتمتمان تسبيحاً.. وتحميداً.. وابتهالا إلى الله واستغفارا. فإذا أراد أحدهما أن يتكلم أوقف قراءة القرآن واستبدل بها شريطاً للأناشيد من تلك التي تضفي على النفس بهجة وسروراً في مثل هذه المناسبة.
كان خالد يراوح بنظرة بين الطريق ووجه زوجته الوضيء.. يقول في نفسه:
ما أسعدك يا خالد! ها أنت ذا ملكت من أطرافها الأربعة ذات الدين والجمال والحسب والمال!! هل يعقل أن يجتمع الأربعة في آن واحد؟!
وفي لحظة شرود ارتفع صوت همسة في نفسه، فسمعته فاطمة وهو يردد: الحمد لله.. الحمد لله يارب!
نظرت إليه وقد زاد وجهها إشراقاً بالابتسامة التي علته وقالت: الحمد لله، نعم.. ألف الحمد لله !
كأن كلا منهما كان يقرأ ما في نفس الآخر فقال خالد وهو يوزع نظره بين وجه فاطمة وبين الطريق المنحدر نحو مكة من جبال الطائف بعد الميقات:
- علام تحمدين الله يا فاطمة؟!
- قالت فاطمة:
أحمد الله على ما حمدته عليه أنت!
- قال خالد:
- علام تظنين أني حمدت الله؟!
- قالت فاطمة:
- الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات؛ أظن -وهذا الظن ليس إثماً- أنك حمدت الله على أن وفقنا في هذا الزواج، وكان من تمام شكر هذه النعمة أن نقضي شهر العسل في مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة والطائف بعيداً عن مناظر المعاصي والآثام كما يفعل بعض الناس!! إنها الأيام الأولى من حياتنا التي لن ننساها أبداً.. لبيت أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تدوم السعادة فيه.. في الدنيا، وتنال رضا الله في الآخرة.
وبينما كانت فاطمة تتحدث كان خالد يتخيل في صوتها أصوات الحور العين في الجنة، ويطير بأجنحة السعادة في عوالم الأحلام!. وفجأة أسدلت فاطمة خمارها على وجهها إذ وجدت نفسها أمام نقطة التفتيش في مدخل مكة! وارتبك خالد بعض الشيء للمفاجأة وكادت سيارته ترتطم بالسيارة التي أمامها.. وسمع صرير عجلات سيارته وهي تخط على الأرض، وتبعث في الأنوف رائحة الاحتكاك الحارق..!
قال خالد:
الحمد لله لا يوجد زحام، لقد شردنا بالكلام عن القيادة!
والتقت عينا الشرطي بعيني خالد، ففهم كل منهما ما يقوله الآخر، فمد خالد يده إلى الأوراق الخاصة بالسيارة وقيادتها، ولكن الشرطي أشار إليه بالاستمرار في السير..
---------
قالت فاطمة وقد وقفت تطل على ساحة المسجد الحرام من الجناح الذي استأجراه في الفندق الذي يزاحم قامات المآذن الشاهقة في المسجد الحرام:
الحمد لله، الجناح مناسب، بل رائع. وأحسن شيء فيه أنه مطل على المسجد الحرام.. انظر يا خالد ما أبهج هذا المنظر!
قال خالد:
لنجلس قليلاً ثم ننزل إلى الطواف والسعي، فقد قرب وقت صلاة العصر.
ومد يده إلى الهاتف فطلب إبريقاً من الشاي، وخلال تناول الشاي لحظ خالد أن فاطمة تريد أن تقول شيئاً ما..! فقال لها:
هل لديك شيء يا فاطمة؟ هل أطلب طعاماً؟ هل أطلب عصيراً؟ تريدين أن تستريحي فترة أطول.. ثم ننزل إلى الطواف؟
قالت فاطمة وهي تصنع ابتسامة خجولة: لا..لا.. ولكن عندي سؤال.
قال خالد: سؤال!؟ اسألي ألف سؤال، أنت تسألين ونحن نجيب! وضحكا معاً.
قالت فاطمة: سؤال أنت ستسأل عنه.
قال خالد:ما هو السؤال؟
قالت فاطمة: سؤال قديم أحبسه في نفسي منذ زمن! حاولت أن أنساه أو أتناساه، لكن لم أستطع، ولا أدري لماذا يلح علي اليوم بقوة!؟
قال خالد ضاحكاً: لأنك أهلكته من الحبس بغير ذنب! أطلقي سراحه، حرام عليك يا بنت الحلال! وضحكا مرة أخرى.
قال خالد: ولكن ما هو السؤال؟ هاتِه، وبعد العمرة نسأل في الحرم أحد العلماء الذين يقيمون دروساً بين المغرب والعشاء.
قالت فاطمة: منذ سنوات قدمنا إلى العمرة مع العائلة، وفي الطواف أحسست بمجيء الدورة الشهرية، وكان لم يبق من الطواف إلا شوطان أو ثلاثة، فترددت أن أخبر أهلي بذلك خشية الانتظار، وكأني غالطت نفسي أني توهمت مجيء الدورة لحظته! ولكن بعد الرجوع تأكدت أنها كانت حقيقة وليست وهماً! ولم أجرؤ على السؤال حتى الآن. وصراحة لا أدري هل كنت خائفة أم خجلى!؟
قال خالد:
والآن! أخبرت زوجك! لا حياء في الدين يا فاطمة.. الأمر بسيط، هيا بنا إلى الحرم.
---------
توجهت فاطمة بعد الانتهاء من العمرة إلى المكان المخصص للنساء، ومشى خالد إلى جانب الرجال، وقد التف جمع من الطلبة حول أحد العلماء الذي جلس على كرسي التدريس.
كان الطلبة يتابعون الشيخ من كتب بين أيديهم، وعدد كبير آخر من الرجال ذوي جنسيات مختلفة، وملابس متنوعة تدل على بلدانهم التي أتوا منها؛ ازدحموا حول الشيخ أيضاً.
غيَّر خالد مكانه أكثر من مرة زاحفاً نحو الأمام تجاه كرسي الشيخ، بحث فيما حوله عن ورقة وقلم ليكتب السؤال..
قال في نفسه: ليتني كتبت السؤال في غرفة الفندق!
تلفت حوله مراراً مع كل ورقة يراها تصل إلى الشيخ ويتسلمها أحد الطلبة الجالسين بجانب الكرسي، وكلما همَّ بطلب ورقة وقلم أحجم خشية أن يحدث أي حركة تفسد جلال المكان وهيبة درس العلم. خفق قلبه، ابتلع ريقه، أعاد صياغة السؤال في نفسه عدة مرات، وحذف منه مالا لزوم له من الكلمات. بدأ الشيخ في الإجابة على الأسئلة.. ازدادت خفقات قلبه وهيبة درس العلم!.
بدأ الشيخ في الإجابة على الأسئلة، ازدادت خفقات قلبه عندما همَّ أن يطلب قلما وورقة من الشخص الجالس بجانبه.
لاحظ أن يده ترتجف قليلاً قال في نفسه: إذا طلبت ورقة وقلماً فسينتبه إليّ الشخص نفسه، ويعرف أني صاحب السؤال!. وعزم أن يسأل الشيخ خارج الحرم بعد أن ينصرف الجموع من حوله..
توالت قراءة الأسئلة وإجابات الشيخ عنها.. وفجأة توقف الشيخ وبيده ورقة صغيرة ورفع صوته قائلاً:
- من صاحب هذه الورقة!؟ من صاحب هذا السؤال!؟
.
.
يتـبع ..